الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الصافات: الآيات 1- 10]: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)}..اللغة: {دُحُورًا} مصدر دحره أي طرده وأبعده وهو من باب خضع.وللدال مع الحاء فاء وعينا للفعل معنى القذف والطرد والدفع فمن ذلك دح الشيء في الأرض أي دسه فيها ودح الطعام بطنه ملأه حتى يسترسل إلى أسفل ودح الرجل: دعّه في قفاه والعامة تستعمله بهذا المعنى فيقولون: دحّه على ظهره فهي من العامي الفصيح. ودحرج الشيء فتدحرج: أي قلبه وأداره على نفسه متتابعا في حدور فانقلب.ودحس بين القوم أفسد بينهم ودحس الشيء ملأه ودحس برجله فحص ويقال ما بي من داحس وهو تشعث الإصبع وسقوط الظفر وما تسميه العامة ورم حار في طرف الإصبع فهي عربية فصيحة قال مزرّد:وخرج الحجاج في بعض الليلي فسمع صوتا هائلا فقال: إن كان هذا صاحب عائر أو قادح أو داحس فلا تحدث شيئا وإلا فأخرج لسانه من قفاه أي صاحب رمد أو وجع ضرس، ويقال للرجل والدابة إذا أصابهما الجرح فارتكضا للموت: تركته يفحص ويدحص الأرض برجله. ودحضت رجله زلقت دحضا ودحوضا وأدحض فلان قدمه ومزلقة مدحاض وهذه مدحضة القدم ودحض الحجة أبطلها.ودحقه يدحقه من باب فتح دحقا: طرده وأبعده ودحقت الرحم بساء الفحل رمت به فلم تقبله ودحقت الحامل بولدها أجهضته وولد دحيق وقيل: دحقت به: ولدته وأصابها دحاق وهو أن تخرج رحمها بعد الولادة وهي دحوق وداحق وأدحقه اللّه باعده من الخير وهو دحيق تقول: أسحقه اللّه وأدحقه وهو سحيق دحيق. ودحل: توارى في دحل وهو حفرة غامضة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل تقول: طلبوا بالذحول فتواروا في الدحول ودحل البئر: حفر في جوانبها ونصب الصائد الدواحيل وهي مصائد للحمر الواحد داحول وبئر دحول ذات تلحف وهو تكسر جوانبها مما أكلها من الماء فما يستعمله العامة منها محرف ولم يرد في اللغة بهذا المعنى إلا على مجاز بعيد وتسميتهم أخيرا المدحلة بالمعنى الشائع فيه تسامح ولكننا نتسامح به أيضا.ودحمه دحما دفعه دفعا شديدا فاستعمال العامة لها بهذا المعنى لا غبار عليه. ودحمس الليل أظلم أو ألقى بظلامه على كل شيء.ودحمل به دحرجه على الأرض. ودحا اللّه الأرض: افترشها وبسطها ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض أي دفعها وبابه نصر وفتح يقال دحا يدحو ودحى يدحى وليس معنى البسط أنها ليست كالكرة ولكنها ممدودة متسعة كما يأخذ الخباز الفرزدقة فيدحوها. قال ابن الرومي: وهذا من أعاجيب لغتنا العربية الشريفة.{واصِبٌ} دائم وفي المختار وصب الشيء يصب بالكسر وصوبا دام ومنه قوله تعالى: {وله الدين واصبا} وقوله تعالى: {ولهم عذاب واصب}.{فَأَتْبَعَهُ} في المختار: تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مرّ به فمضى معه وكذا اتبعه وهو افتعل وأتبعه على أفعل وقال الأخفش: تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه ومنه قوله تعالى: {فأتبعه شهاب ثاقب}.{ثاقِبٌ} أي يثقبه أو يحرقه ونقل القرطبي في تفسير الثاقب قولين: قيل بمعنى المضيء وقيل بمعنى المستوقد من قوله: اثقب زندك أي استوقد نارك وقال البيضاوي: ثاقب مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه ولهذه المادة عجائب في التنويع والتصرف ففي الأساس واللسان: ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء النازل وثقب اللّآل الدر، ودر مثقب وعنده در عذارى: لم يثقّبن وثقبّن البراقع لعيونهن قال المثقب العبدي: وبه سمي المثقّب.وكوكب ثاقب ودرّيء: شديد الإضاءة والتلألؤ كأنه يثقب الظلمة فينفذ فيها ويدرؤها ورجل ثقيب وامرأة ثقيبة مشبهان للهب النار في شدة حمرتهما وفيهما ثقابة وحسب ثاقب:شهير، ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلا نظّارا، وأتتني عنك عين ثاقبة أي خبر يقين وثقب الطائر إذا حلق كأنه يثقب السكاك وثقّب الشيب في اللحية أخذ في نواحيها. .الإعراب: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} الواو حرف قسم وجر والصافات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، والصافات اسم فاعل من صف قيل هم الملائكة المصطفون في السماء يسبحون لهم مراتب يقومون عليها صفوفا كما يصطف المصلون وقيل هم المجاهدون وقيل هم المصلون وقيل هي الطير الصافات أجنحتها كقوله والطير صافات، وفي الصافات ضمير مستتر هو الفاعل والمفعول به محذوف أي نفوسها أو أجنحتها وصفا مفعول مطلق مؤكد.{فَالزَّاجِراتِ زَجْرًا} الفاء حرف عطف، قال الزمخشري: فإن قلت ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله:كأنه قيل الذي أصبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم اللّه المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات، وسيأتي تعقيب مفيد على هذا التقرير في باب البلاغة.{والزاجرات} عطف على {الصافات} والمراد بها قيل نفوس العلماء لأنها تزجر العصاة بالنصائح والمواعظ أو الملائكة ترجر السحاب أي تسوقه وزجرا مصدر مؤكد أيضا.{فَالتَّالِياتِ ذِكْرًا} قيل أراد نفوس العلماء لأنها تتلو آيات اللّه وتدرس شرائعه وقيل نفوس قواد الغزاة في سبيل اللّه التي تصف الصفوف وتزجر الخيل وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل وذكرا مفعول مطلق لأنها في معنى التاليات ويجوز أن تكون مفعولا به للتاليات، وسيأتي معنى القسم بهذه الأشياء في باب الفوائد.{إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ} الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وواحد خبرها.{رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ} رب السموات بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ورب المشارق عطف على رب السموات وسيأتي سر إعادة الرب وعدم ذكر المغارب في باب البلاغة.{إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ} كلام مستأنف مسوق لتقرير لطائف صنعه وبديع خلقه. وان واسمها وجملة زينا خبرها وزينا فعل ماض ونا فاعل والسماء مفعول به والدنيا صفة أي القريبة منكم والتي تتراءى لأعينكم وهي الجديرة بالتدبر والاعتبار وبزينة جار ومجرور متعلقان بزينا والكواكب عطف بيان أو بدل لزينة وهناك قراءات أخرى وأعاريب طريفة سنوردها في باب الفوائد.{وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ} الواو عاطفة وحفظا في نصبه أوجه أرقاها من جهة المعنى ما نحا إليه الزمخشري قال: وحفظا مما حمل على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشيطان كما قال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين}.ويجوز أن يقدر الفعل المعلل كأنه قيل وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب وقيل وحفظناها حفظا وهذا الوجه الثاني أسهل من حيث الإعراب وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: وحفظا إما منصوب على المصدر بإضمار فعل أي حفظناها حفظا وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زينا أو على أن يكون العامل مقدرا أي لحفظها زيناها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي إنا خلقنا السماء الدنيا زينة وحفظا واقتصر أبو البقاء على المفعولية المطلقة ومن كل شيطان متعلقان بحفظا إن لم يكن مصدرا مؤكدا وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا ويجوز أن يكون صفة لحفظا.{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ} في إعراب هذه الجملة كلام كثير ونقاش طويل نرجئه إلى باب الفوائد. ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وإلى الملأ الأعلى متعلقان بيسمعون وسيأتي سر هذا التعدي في باب الفوائد، والأعلى صفة للملأ ويقذفون الواو عاطفة ويقذفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن كل جانب متعلقان بيقذفون أي من أي جهة صعدوا ليسترقوا السمع.{دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ} دحورا مفعول من أجله أي يقذفون للدحور أو مدحورين على الحال أو مفعول مطلق وينوب عن المصدر مرادفه والقذف والطرد متقاربان والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وواصب نعت لعذاب.{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ} إلا أداة حصر واستثناء لأن الكلام تام منفي ومن في محل رفع بدل من الواو على الأول أو في محل نصب على الاستثناء على الثاني ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فيتعين النصب على الاستثناء والخطفة مفعول مطلق فهو مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، فأتبعه الفاء عاطفة وأتبعه فعل ومفعول به مقدم وشهاب فاعل مؤخر وثاقب نعت لشهاب. .البلاغة: التقديم والتأخير:أثبتنا في باب الإعراب تقرير الزمخشري عن الفاء العاطفة للصفات وقد انتهى الزمخشري من تقريره إلى القول، فعلى هذا إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصفات في التفاضل وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتيب الموصوفات فيه، ومعنى توحيدها أن تعتقد أن صنفا مما ذكر في التفاسير المذكورة جامع للصفات الثلاث، على أن الأول هو الأفضل أو على العكس، ومعنى تثليثها أن تجعل كل صفة لطائفة ويكون التفاضل بين الطوائف إما أن الأول هو الأفضل أو على العكس. ووجهة الزمخشري قوية وتقريره ممتع مفيد ولكنه لم يبين وجه كل واحد منهما وخلاصة ما يقال فيه أن للعرب في التقديم مذهبان أولهما:1- الاعتناء بالأهم فهم يقدمون ما هو أولى بالعناية وأجدر بأن يقرع السمع.2- الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ومنه قوله:ولا يقال إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة فإن هذا غايته أنه عذر وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة.كلمة عامة في التقديم والتأخير:هذا وقد عقد عبد القاهر فصلا مطولا في كتابه دلائل الإعجاز عن التقديم والتأخير يرجع إليه القارئ إن شاء، ونلخص هنا ما قاله علماء المعاني في صدد التقديم والتأخير فمن المعلوم أنه لا يمكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة بل لابد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض وليس شيء منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر لاشتراك جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ في درجة الاعتبار فلابد لتقديم هذا على ذاك من داع يوجبه وهذه الدواعي كثيرة فمنها:1- التشويق إلى المتأخر إذا كان المتأخر مشعرا بغرابة كقول أبي العلاء: 2- تعجيل المسرة أو المساءة نحو العفو عنك صدر به الأمر أو القصاص حكم به القاضي.3- كون المتقدم محط الإنكار والتعجب نحو: أبعد طول التجربة تنخدع؟4- النص على عموم السلب أو سلب العموم فالأول يكون بتقديم أداة العموم على أداة النفي نحو: كل ذلك لم يقع أي لم يقع هذا ولا ذاك والثاني يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم نحو:لم يكن كل ذلك أي لم يقع المجموع فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد.5- التخصيص نحو: ما أنا قلت، وإياك نعبد.6- ومما يرى عبد القاهر تقديم الاسم فيه كاللازم مثل وغير في نحو قوله: وقول أبي تمام: وفي التعبير الأول لا يقصد بمثل إلى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس، وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر وأن لا يفعل وكذلك في التعبير الثاني لا يراد بغير أن يومىء إلى إنسان فيخبر عنه بأنه يفعل بل لم يرد إلا أن يقول: لست ممن يأكل المعروف سحتا.
|